لقد تجاوزت تداعيات عروض القوة الروسية الأخيرة في جورجيا سلفاً حدود منطقة القوقاز، لتلقي بتأثيراتها في مناطق أبعد منها بكثير. ذلك أن هذه العروض تأتي بمثابة تأكيد جديد على أن هذا البلد الذي يتولى قيادته رئيس الوزراء فلاديمير بوتين والرئيس ديمتري ميدفيديف، لم يعد ذلك البلد الفقير المستضعف الفاقد للحيلة، مثلما كانت هي حال روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في بدايات تسعينيات القرن الماضي، بل أصبحت روسيا الآن دولة يجب أن يُحسب لها ألف حساب. ففي الأيام الأخيرة الماضية، أظهرت موسكو للعالم كله ثقتها السياسية العالية بنفسها، مصحوبة بجبروتها العسكري الضاري. فبهزيمتها لجورجيا في الأسبوع الماضي، وبسطها نفوذها على إقليمي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا الحليفين لها داخل جورجيا وإعادتهما إلى دائرة نفوذها، أكدت موسكو بذلك عزمها على بسط هيمنتها على منطقتي القوقاز والبحر الأسود معاً. وإنْ لم تكن موسكو تعتزم فرض هيمنتها، فهي لا شك عازمة على بسط نفوذها على أقل تقدير على مجمل ما يعرف في لغة قاموسها السياسي بـ"العالم الخارجي القريب". والأرجح أن تكون منطقة شبه جزيرة كريميان الأوكرانية، هدفها التالي في هذا العزم. وباستخدامها للقوة دفاعاً عما ترى فيه مصلحة أمنية مشروعة لها، إنما تتحدى روسيا بذلك الهيمنة الأميركية على العالم. فكما رأينا من سلوك واشنطن في ظل إدارة بوش الحالية، أنها بدت وكأن في وسعها أن تفعل كل ما يحلو لها، دون اعتبار لرغبات أو مصالح الآخرين، أو حتى وجودهم، وبصرف النظر عن القوانين المنظمة للعلاقات الدولية. ومما ساعد واشنطن على المضي في طريق الهيمنة هذا إلى شوطه النهائي، نظام الأحادية القطبية الذي تمخض عنه عالم ما بعد الانهيار السوفييتي، الذي بدت فيه روسيا في بدايات التسعينيات، دولة فقيرة مهيضة الجناح، لا حول لها ولا قوة. وكما رأينا في ردة فعل واشنطن على الهجوم الروسي الأخير على جورجيا، فقد أرغى مسؤولوها واستشاطوا غضباً على ما حدث، خاصة التصريحات النارية الصادرة عن الرئيس بوش، بما احتشدت به من وعد ووعيد لموسكو. بيد أنه ليس من سبيل لواشنطن أن تتهم موسكو بمهاجمة دولة ذات استقلال وسيادة وطنية، بكل ما يتطلب ذلك من استقامة وصدق، طالما أن واشنطن نفسها هي من غزا العراق وحاق به خراباً ودماراً واسع النطاق، خلّف وراءه عشرات الآلاف من القتلى العراقيين، اعتماداً على مسوغات وأدلة ملفقة، ودون الحصول على موافقة الأمم المتحدة على عدوانها العسكري على العراق. وهذه هي الحقيقة، التي ما تفتأ موسكو تشير إليها دائماً. وفوق ذلك، فإنه ليس في وسع واشنطن التصدي بالقوة اللازمة للاعتداء العسكري الأخير لموسكو على حليفتها جورجيا، طالما ظل الجيش الأميركي في مأزقه الحالي في جبهتين عسكريتين كارثيتين، يصعب الفوز بالحرب في أي منهما. والمرجح أن تشهد العلاقات الأميركية- الروسية توتراً حاداً، يقدر أن تكون له تداعيات واسعة النطاق في أنحاء شتى من العالم، لا تستثنى منها منطقة الشرق الأوسط. فعلى سبيل المثال، لن يتسنى لواشنطن التعاون مع موسكو في حملة الترهيب التي تقودها ضد طهران، بالتحالف والتنسيق مع إسرائيل. وبهذا المعنى، فإن المرجح أن تكون طهران الطرف الكاسب في الأزمة الجورجية هذه. فبسببها تراجع احتمال توجيه ضربة عسكرية أميركية- إسرائيلية إلى منشآت إيران النووية أكثر من ذي قبل، وبسببها يستقوي حلفاء إيران الإقليميون في المنطقة مثل سوريا و"حزب الله"، مع ملاحظة النجاح الكبير الذي أحرزه هؤلاء على خصومهم في كل من لبنان والمنطقة العربية بأسرها. بل إن على إسرائيل أن تحترز جيداً لخطواتها مع موسكو. فقد أثارت غضب موسكو بسبب تدريبها لقوات الجيش الجورجي، ومدها إياه بالمعدات العسكرية، بما فيها نظم الطائرات المقاتلة من دون طيارين. أما حليفتها واشنطن، فقد أثارت هي الأخرى غضب موسكو برعايتها ودعمها لانضمام كل من أوكرانيا وجورجيا وتشجيعهما على الانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، إلى جانب سعيها لنصب نظام لاعتراض الصواريخ في بولندا وجمهورية التشيك. يذكر- وفيما بدا أشبه بردة فعل مباشرة على الغزو الروسي الأخير لجورجيا- أن الولايات المتحدة وبولندا قد أبرمتا صفقة لنصب نظم لاعتراض الصواريخ في بولندا. وكان حتمياً أن تنظر موسكو إلى الخطوة، على أنها تهديد مباشر لأمنها القومي. وفي تعليق على الصفقة، صرح مسؤول رفيع المستوى من وزارة الدفاع الروسية قائلاً إن خطوة كهذه لا يمكن لها أن تمر دون عقاب. ومما أثار غضب موسكو على واشنطن، دعم الأخيرة لخطوط أنابيب للنفط والغاز، قصد بها أن تتخطى موسكو بما تحمله من صادرات آسيا الوسطى ومنطقة القوقاز إلى البحر الأبيض المتوسط. وأبرز هذه الخطوط، خط تبليسي- جيهان الذي بدأ نشاطه التجاري في عام 2005. وتمثل هذه الخطوط تحدياً سافراً لطموحات روسيا في احتكار إمدادها لأوروبا بما تحتاجه من منتجات النفط والغاز الطبيعي. ولعل أوضح نتائج الأزمة الجورجية الأخيرة هذه، تراجع آمال جورجيا وأوكرانيا كثيراً في الانضمام إلى حلف "الناتو"، في المستقبل القريب المنظور على الأقل. والسبب هو الدمار الهائل الذي لحق بمعدات الجيش الجورجي وصفوف قواته. وإلى جانب ذلك، خسرت جورجيا إقليميها المتمردين، أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، اللذين تبسط موسكو هيمنتها الكاملة عليهما الآن بوجودها العسكري المكثف تحت ستار مهمة حفظ السلام. ليس ذلك فحسب، بل ربما لا يطول بقاء الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشيفيلي في منصبه الرئاسي؛ والسبب ما جره عليه خطأه الفادح بإرسال قواته إلى إقليم أوسيتيا الجنوبية المتمرد، ظناً منه أن في وسعه تحييد موسكو استناداً إلى ظهره الأميركي. وقد خيب الرد الروسي العنيف على هذه الخطوة، تلك التقديرات الواهمة. والمرجح أن تطيح بساكاشيفيلي تلك العبارات الاستفزازية غير المحسوبة التي صدرت عنه أثناء مؤتمر صحفي مشترك عقده مع وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس، مثل وصفه للروس بالبربرية وبأنهم قتلة قساة القلوب. وما يرجح الإطاحة بساكاشيفيلي أن موسكو بدأت تنظر إلى جارتها جورجيا باعتبار أن الظروف فيها ناضجة ومواتية لـ"تغيير النظام". وعلى الرغم من أن العالم لم تعد تسوده تلك المواجهات الجليدية الحازمة التي سادت فترة الحرب الباردة، فإن الأسبوعين الأخيرين شهدا تحولاً واضحاً في توازن القوى الدولية. وضمن هذه التحولات، بروز روسيا لاعباً دولياً ومنافساً قوياً يحسب له حسابه في عالم التعددية القطبية هذا. ومن الواجب الآن تعديل الكثير من العلاقات الدولية كي تتوافق وهذا الواقع الجديد.